فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ}
كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.
وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم.
وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت.
و(مِن) في قوله: {وممن حولكم} للتبعيض و(مِن) في قوله: {من الأعراب} لبيان (مَن) الموصولة.
و(مِن) في قوله: {ومن أهل المدينة} اسم بمعنى بعض.
و{مردوا} وخبر عنه، أو تجعل (مِن) تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف، تقديره: ومن أهل المدينة جماعة مردوا، كما في قوله تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} في سورة النساء (46).
ومعنى مرد على الأمر مَرِن عليه ودَرِب به، ومنه الشيطان المارد، أي في الشيطنة.
وأشير بقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يُطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبلُ.
وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمُون، فالمقصود هو قوله: {لا تعلمهم}.
وجملة {نحن نعلمهم} مستأنفة.
والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به.
وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف.
وفيه أيضًا تمهيد لقوله بعده {سنعذبهم مرتين}.
وجملة: {سنعذبهم مرتين} استيناف بياني للجواب عن سؤال يثيره قوله: {نحن نعلمهم}، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم.
فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدمُ علم الرسول عليه الصلاة والسلام بهم.
والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده {ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين.
وحملوه كلهم على حقيقة العدد.
وذكروا وجوهًا لا ينشرح لها الصدر.
والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] أي تأمل تأملًا متكررًا.
ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ.
والمعنى: سنعذبهم عذابًا شديدًا متكررًا مضاعفًا، كقوله تعالى: {يضاعَف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30].
وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
والعذاب العظيم: هو عذاب جهنم في الآخرة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}
أوضح سبحانه: وطِّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطين يعطي مناعة اليقظة؛ حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الحق: انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو، ونحن نفعل ذلك ماديًّا حين نسمع عن قرب انتشار وباء؛ فنأخذ المصل الواقي منه، رغم أنه داء إلا أنه يعطينا مناعة ضد المرض.
وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يُهاجَم المؤمنون عن غفلة، فيقول: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} ومرد يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عند حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة. وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية؛ حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير.
وافرض أن واحدًا قال لك: إن هذا الطريق مَخُوف لا تمشِ فيه وحدك بالليل. ثم جاء آخر وقال: إنه طريق آمن ومشينا فيه ولم يحدث شيء، فلو أنك احتطْتَ وأخذت معك سلاحًا أو رفيقًا فقد استعددت للشر لتتوقاه، فَهَبْ أنه لم يحدث شيء، فما الذي خسرته؟ إنك لن تخسر شيئًا.
وهذه قضية منطقية فلسفية يُردّ بها على الذين يشككون في دين الله، مثل المنجِّمين، ومَن يدَّعون الفلسفة، ويزعمون أنه لا يوجد حساب ولا حشر ولا يوم آخر، فيقول الشاعر:
زَعَم المنجِّم والطِّيبُ كلاهما ** لا تُحْشَرُ الأجسَاد قلْتُ إليكُمَا

إنْ صَحَّ قولكُمَا فَلسْتُ بخَاسرٍ ** أوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَار عليكُما

أي: إن كان كلامكم صحيحًا من أنه لا يوجد بعث- والعياذ بالله- فلن أخسر شيئًا؛ لأني أعمل الأعمال الطيبة. وإن كان هناك بعث- وهو حق- فسوف ألقى الجزاء في الجنة؛ وبذلك لم أخسر، بل كسبت. لكن افرضوا أنكم عملتم الشر كله وجاء البعث فأنتم الخاسرون. والقضية الفلسفية المنطقية هنا هي: إن لم أكسب فلن أخسر، وأنتم إن لم تخسروا فلن تكسبوا.
والحق في هذه الآية يقول: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق...} وكلمة {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} تفيد أنكم محاصرون، لا ممن حولكم فقط، بل أيضًا ببعض من الموجودين بينكم في المدينة، وهم من تدربوا على النفاق حتى صارت لهم ألفة به.
وهذه الآيات- كما نعلم- قد نزلت تحكي حال المنافقين. والنفاق تتعارض في ملكات النفس الإنسانية بأن توجد ملكة كفر في القلب، بينما توجد ملكة إيمان في اللسان، فلا يتفق اللسان مع القلب، فالذين آمنوا يوافق ما ينطقون به ما في قلوبهم، والذين كفروا وافقت قلوبهم ألسنتهم.
أما الصنف الثالث: وهم الذين نطقوا بالإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فهؤلاء المنافقون.
وهو لفظ مأخوذ من نافقاء اليربوع وهو حيوان صحراوي يشبه الفأر، ويخدع من يريد صيده، فيجعل لبيته أو جحره عدة فجوات، فإذا طارده حيوان أو إنسان يدخل من فجوة، فيتوهم الصائد أنه سيخرج منها، ويبقى منتظرًا خروجه، بينما يخرج اليربوع من فجوة أخرى، فكأنه خادع الصائد، فالصائد يظن أن للجحر بابًا واحدًا، ولكن الحقيقة أن للجحر أكثر من مدخل ومخرج. والنفاق بهذه الصورة فيه ظاهرتان: ظاهرة مَرَضيّة في المنافق، وظاهرة صحية في المنافَق؛ ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة.
ومن العجيب أن ينشأ النفاق في المدينة التي آوت الإسلام وانتشر منها، وانساح إلى الدنيا كلها، ولم يظهر في مكة التي أرادت أن تطمس الإسلام، وحارب سادتُها وصناديدُها الدعوةَ.
إذن: فلابد أن نأخذ من النفاق ظاهرتين: الظاهرة الأولى وهي الظاهرة المرضيّة، حيث قال الحق: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا...} [البقرة: 10].
أما الظاهرة الثانية فهي الظاهرة الصحية، فقد أصبح الإسلام قويًّا بالمدينة غيره عند بدء الدعوة في مكة. إنما يُنَافَق القوي؛ لأن المنافق يريد أن ينتفع بقوة القوى، كما أن المنافق يعرف أنه لن يستطيع مواجهة القوي، أو أن يقف منه موقف العداء الظاهر.
إذن: فالنفاق حين يظهر، إنما يظهر في مجالات القوة، لا في مجالات الضعف، فالرجل الضعيف لا ينافقه أحد، والرجل القوي ينافقه الناس. إذن: فالنفاق ظاهرة مرضية بالنسبة للمنافق، وظاهرة صحية في المنافَق.
وأراد الحق سبحانه أن يكشف للمؤمنين أمر المنافقين الذين يتلصصون عليهم، أي: يتخذون مسلك اللصوص؛ في أنهم لا يُواجهون إلا في الظلام، ويحاولون أن يدخلوا من مداخل لا يراهم منها أحد، ويتلمَّسون تلك المداخل التي لا تظهر، ويُخْفون غير ما يظهرون.
أما مواجهة الكافر فهي مسألة واضحة، صريحة؛ فهو يعلن ما يبطن، ويواجهك بالعداء. وأنت تواجهه بجميع قوتك وكل تفكيرك؛ لأنه واضح الحركة. أما المنافق الذي يُظهر الإيمان وفي قلبه الكفر، فهو يتلصص عليك، وعليك أن تحتاط لمداخله؛ لأنه ينتظر اللحظة التي يطعنك فيها من الخلف.
وينبهنا الحق إلى ضرورة الاحتياط، وأن يمتلك المؤمنون الفطنة والفراسة وصدق النظر إلى الأشياء، فكشف لنا سبحانه كل أوجه النفاق؛ كشف منافقي المدينة حيث يوجد منافقون وغير منافقين، ومنافقي الأعراب الذين يوجد بينهم منافقون وغير منافقين، وعَلّم الحق سبحانه المؤمنين كيف يتعرفون على المنافقين بالمظاهر التي تكشف ما يدور في صدورهم.
وسبحانه القائل عن المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول...} [محمد: 30].
ولكنْ هناك لون من النفاق، نفاق فني دقيق، يغيب على فطنة المتفطن، وعلى كياسته.
ولذلك يوضح لنا سبحانه: أنا لا أكلُكم إلى فطنتكم لتعلموا المنافقين، وإنما أنا أعلمه وأنتم لا تعلمونه؛ لأنهم قد برعوا في النفاق {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ورغم فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكياسته فقد أوضح له الحق أنه سيغيب عنه أمرهم؛ لأنهم احتاطوا بفنيّة النفاق فيهم حتى لا يظهر.
لقد عبّر القرآن التعبير الدقيق، فقال: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} والمادة نفسها في كلمة {مَرَدُواْ} هي من مرد، يمرد، مرودًا، وماردًا، ومريدًا، هذه المادة تصف الشيء الناعم الأملس الذي لا تظهر فيه نتوءات، ومنه الشاب الأمرد، يعني الذي لم ينبت له شعر يخترق بشرته، إذن: المادة كلها تدل على الثبات على شيء، وعدم وجود شيء فيه يخدش هذا الثبات.
ويوضح سبحانه: تنبَّهوا، فممَّن حولكم من الأعراب منافقون، وقول الحق: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يشعر بأنهم محاطون بالنفاق، ولماذا يحاطون بالنفاق؟ لأن الدعوات الإيمانية لا تظهر إلا إذا طمّ الفساد في بيئة.
ونعلم أن الحق قد جعل في النفس أشياء تطرد الباطل، وإن الحّ الباطل عليها فترة، تتنبه النفس إليه وتطرده. وهؤلاء هم الذين يتوبون، يقترفون الذنب ثم ترجع إليهم نفوسهم الإيمانية فتردعهم. إذن: فالردع إما أن يكون ذاتيًّا في النفس، وإما أن يكون من المجتمع للنفس التي لا يأتيها الردع من الذات، فهي نفس أمَّارة بالسوء، وهي لا تأمر بالسوء مرة وتنتهي، بل هي أمّارة به، أي: اتخذت الأمر بالسوء حرفة؛ لأن صيغة فعّال تدلنا على المزاولة والمداومة.
وإذا كانت المناعة في النفس فهذا أمر يسير ويأتي من النفس اللوامة، وقد يكون المجتمع الذي حول الإنسان هو الذي يردع النفس إن ضعفت في شيء. وبهذا تكون المناعة رادعًا ذاتيًّا، ولا المجتمع فيه رادع؛ هنا لابد أن تتدخل السماء، وتأتي دعوة الحق بآياتها، وبيناتها، ومعجزة الرسول.